ربما صدفة وربما غير ذلك وربما ما بينهما من الممكنات , تباين يقودنا للتعامل مع النتائج في واقع ثابت جغرافياً تحول ثقافياً وتاريخياً وديموغرافياً تحولاً جذرياًً خلال فترة زمنية قياسية بمقاييس التاريخ , مثيراً تساؤلات غير محدودة عن دوافعه وأسبابه كمرحلة أولى ونتائجه والمخاطر المترتبة عليه كمرحلة لاحقة والقصد هنا هجرة الثقافات من الشرق العربي . هذا الشرق الممتد جغرافياً في إطار يتوسط العالم من العراق شمالاً وشرقا إلى النيل غرباً وجنوباً مروراً بنصيبين وماردين... وصولاً إلى دمشق القدس... معرجاً على النيل...
وفي إطار آخر ... زمني عمره آلاف السنين يحدده نشوء حضارات متزامنة متعاقبة متلاحقة متداخلة متجاورة , سومرية, بابلية, آشورية, أكادية, تدمرية, نبطية, فرعونية ... تحددها على أرض الواقع آلاف المواقع الأثرية التاريخية التي يصل عمر بعضها إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد والتي مازال بعضها ينبض بالحياة من خلال أهلها وسكانها , لها مقومات وبنى وهوية تحكي قصة كل مرحلة تاريخية ترشدنا إلى حقائق واكتشافات ذلك الزمان وتدهشنا بنوعيتها وجمالها وقدرتها ... والنتيجة إرث معرفي حامله وحاضنه إنسان تلك الحضارات على الصعد كافة بما يعرفه ويتقنه من تفاصيل ذلك الزمان الممتد لآلاف السنين مجتازاً كل مراحله بمصاعبها حاملاً تراثه وتاريخه ومعارفه الإنسانية, اللغوية, الفنية, الموسيقية, المعمارية, التجارية, الزراعية, شاملة كل مناحي الحياة الاجتماعية, السياسية, الاقتصادية... ولعل أهمها الأبجدية التي من خلالها اختصر إنسان تلك الجغرافية رمزية الأشياء وسهل حفظها والتعامل معها فكانت حاضنة لكل مقومات تلك الحضارات عبر التاريخ ولأطول فترة ممكنة .
تجرنا وتجبرنا النتائج والوقائع للتعامل معها جدياً وعلمياً وأكاديمياً من حيث بدأت زمنياً بتغيير وجه تاريخ المنطقة وتؤثر عليه عندما بدأت هذه الجغرافيا تفقد أهم مقوم من مقومات وجودها الحضارية وهو الإنسان الذي أنتجته هذه الحضارات وأنتجها (وربما العكس) في تداخل وانسجام أدى التفاعل بينهما إلى إنتاج ما ننعم به اليوم . إن ما حصل في العقود الأخيرة لم يكن سرقة آثار المنطقة التي لن نتوقف عندها بل حدث أكثر إيلاماً ورعباً , إنها سرقة إنسانية آثارنا وأهم شاهد على استمرارنا من البعيد , إنها هجرة ثقافات المنطقة بكل ما تحمله في طياتها من تاريخ وتراث ولغة وعادات وتقاليد تشير وتصور بكل تفاصيلها ودقائقها حقائق ذلك الزمان الغابر الضرورية لاستمرارنا,ومن هذه الهجرات :
- هجرة أكثر من 500 ألف سريانياً وآشورياً وكلدانياً من الشمال السوري والعراقي استقروا في السويد وهولندا وألمانيا ودول أخرى (تقدرهم بعض المصادر بأكثر من مليون ونصف ) استقبلتهم هذه الدول تحت شعارات مختلفة تخدم مصالحها مثل حماية الأقليات وحماية حقوق الإنسان غيرها علماً أنها إقتلعتهم من أرضهم وقضت على حضاراتهم بعد أن كانوا سكاناً أصليين في مناطق جذورهم منذ آلاف السنين . (1)
- هجرة أكثر من 126300 كلداني عراقي إلى الولايات المتحدة من تل فائق شمال غرب العراق قرب مدينة نينوى القديمة (مقر الآشوريين والبابليين ) (2)
- تهجير أكثر من 113 ألف يهودي يمني على يد بريطانيا والوكالة اليهودية بين عامي 1810-1950 رفض معظمهم الذهاب إلى اسرائيل .(3)
- هجرة أكثر من 700 ألف يهودي عربي من البلاد العربية خلال أقل من خمسين عاماً موضحاً توزعهم في الجدول الآتي (موثقاً بالصفحة) :
توزع اليهود في الدول العربية في عامي 1950- 1997
الدولة | عدد السكان اليهود 1950 | النسبة المئوية لعدد السكان % | عدد السكان اليهود 1997 | الصفحة |
ليبيا | 140000 | 1.5 | 20 | 15 |
العراق | 120000 | 2.4 | 120 | 13 |
مصر | 75000 | 0.4 | 100 | 15 |
لبنان | 6700 | 0.8 | 20 | 14 |
البحرين | 400 | 0.4 | 30 | 7 |
حضرموت | 2000 |
|
|
|
اليمن | 1200 | 2 | 800 | 17 |
عدن | 100000 | 2.5 |
|
|
تونس | 120000 | 2.5 | 2000 | 7 |
الجزائر | 225000 | 1.7 | 50 | 9 |
مراكش | 14700 | 2.6 | 7500 | 16 |
مراكش اسبانيا | 7000 | 2.1 | 600 | 8 |
طنجة | 7000 | 2.8 |
|
|
سورية* | 6000 | 0.3 | 250 | 10 |
المجموع | 700000 |
| 11470 | 20 |
المصدر: الطوائف اليهودية في الوطن العربي في الماضي والحاضر,إعداد مركز جنين للدراسات الاستراتيجية,ابريل2003 , عمان, الأردن
* يظهر مرجع آخر وهو إحصاءات سورية رسمية أن عدد اليهود في سورية في عام 1956 هو 32032 ( كما هو موضح وموثق في مكان آخر من هذا المقال)
- هجرة أكثر من 32000 ألف يهودي سوري بعد أن سمحت لهم سورية بالمغادرة تعبيراً عن حسن نواياها تجاه السلام وكانت هجرة هؤلاء اليهود نتيجة الضغط الخارجي عليهم وبقي منهم بضع عشرات من كبار السن الذين لا يقوون على المجازفة في الهجرة.(4)
- هجرت الحكومة الاسرائيلية في عامي 1950 و1951 مائة وعشرة آلاف يهودي إلى اسرائيل منهم حوالي 80000 يهودي كردي وتم ذلك بعد زرع الموساد قنابل من عملاء المخابرات الاسرائيلية في الكنس والتجمعات اليهودية وإلصاق التهمة بالعراقيين لإرعاب اليهود ودفعهم لمغادرة العراق (5), علماً أن علاقتهم بمجتمعاتهم كانت أكثر من جيدة ويعتبر تعيين ساسون أفندي حقيل في 13 كانون الثاني 1920 وزيراً للمالية في حكومة العراق خير مثال على انسجام اليهود مع مجتمعهم العراقي (6).
- هجرة أعداد كبيرة من صابئة العراق من منطقة الأهواز وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي لهذا البلد, ولم تتوفر معلومات دقيقة وكافية عن أعداد المهاجرين منهم فاكتفينا بالإشارة إليهم لأنهم يعتبرون ويشكلون جزءاًً أساسياً من تاريخ العراق ونسيجه .
- هجرة أعداد كبيرة من أقباط مصر إلى الأمريكيتين والدول الأوربية ولم تتوفر معطيات كمية عن هجرة هؤلاء فاكتفينا مرة ثانية بالإشارة إليهم .
- الهجرة في ظل الاحتلال العثماني الناتجة عن معاناة واضطهاد وقمع هيأت لظروف وأسست لموجات عديدة من الهجرات الحديثة إلى جميع دول العالم خاصة الأمريكيتين في منتصف القرن التاسع عشر وكانت كلها من نصيب السوريين واللبنانيين والفلسطينين وقلة من العراقيين أدت كنتيجة لتهجير نصف سكان لبنان وواحد من سبع أشخاص من سكان سورية(7) معظمهم من العرب المسيحيين(8) وتقدر إحصاءات إدارة المهاجرين في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا ودول أخرى عدد المهاجرين من هؤلاء بين عامي 1854- 1950 بـ 1.2 (9) مليون أما في أمريكا الشمالية فقد وصل عدد المهاجرين إلى 500 ألف نسمة(10) وهكذا يكون قد هاجر 300 - 400 شخص من كل قرية سورية(11) كان وسطي عدد سكانها 500 - 5000 نسمة (12)
تعكس هذه الأرقام الهجرة الواسعة للعرب المسيحيين مما يعكس بالتالي نسبتهم العالية من إجمالي مجموع السكان حيث كانوا يشكلون أكثر من 50% من سكان سورية في بدايات القرن التاسع عشر ومنتصفه ويظهر واضحاً ذلك إذا ما قارنا عدد سكان سورية في بدايات القرن العشرين الذي بلغ عام 1936 على سبيل المثال حوالي 2094686) (13) نسمة مع مجموع عدد المهاجرين إلى الأمريكيتين البالغ قبل تلك الفترة أكثر من 1.7 مليون نسمة . وأصبحوا اليوم يشكلون في بلادهم مهد المسيحية حوالي 11% من مجموع السكان(14)
وتعتبر هجرة الثقافات ظاهرة خاضعة لمقاييس الدراسات التي تناولت الهجرة من حيث الأسباب والدوافع والنتائج وما بينهما من تفاصيل باتت معروفة لكن اللافت في هذه الحالة هو تعدي وتجاوز كل ما هو معروف من حدود تلك الدراسات خاصة إذا ما تعاملنا مع النتائج المتمثلة بتفريغ شبه كامل لمناطق شاسعة من الشرق العربي من أهلها وسكانها الأصليين وصانعي حضاراتها وبزمن قياسي ( الجزيرة السورية , الشمال العراقي ,والجنوب التركي ) , ويأخذنا التدقيق في تفاصيل الحدث قبل وبعد وقوعه إلى تقاطعات واستنتاجات وافتراضات تتوافق مع أحداث واستراتيجيات ورؤى في مكان محدد وزمان متغير تدفعنا أن نرى في ذلك كسراً لحلقة الترابط بين البلدان المعنية (سورية , العراق , وغيرها ) من خلال فكفكة الحلقة الأقوى والأكثر ثباتاً وهي سكان تلك المناطق ( الآشوريين , السريان , الكلدان ) والذين يعتبر وجودهم واستمراره وتناغمه وتواصله على طرفي الحدود دليلاً حاسماً على عدم شرعيتها وعدم قدرتها على الاستمرار زمنياً خاصة في منطقة تتوسط العالم ويعتبر تقسيمها ضرورة للسيطرة عليها وإخضاعها . هذا من ناحية, أما من ناحية ثانية فإن الهجرة تقود إلى إنهاء علاقة المكان بأهله الذي يمنح بدوره الفرصة والمبرر الموضوعي للقضاء على العلاقة الزمنية بينهما والتي تعتبر نقطة قوة , والقوة هنا ناشئة من وجود حوامل بشرية لتفاصيل إنسانية تاريخية لكل مناحي الحياة في مكان محدد له خصوصيته وبعد زمني وبغيابه تصبح إمكانية الإخضاع والسيطرة أسهل وأكثر ليونة لهدف أبعد هو تغيير وجه المنطقة (15) .
ومن محور آخر لا يقل أهمية تلعب المجتمعات الحاضنة لهذه الحضارات دوراً هاماً غالباً عن قصور في الرؤية وعن غير قصد في تعميم وتكريس مفاهيم ثقافية ومناهج تشريعية تحدد كيفيات الوجود الاجتماعي وآليات فعله(16) مما يكرس بدوره ظاهرتي التغريب والاغتراب اللتين لعبتا دوراً أساسياً في الهجرة وما يطلق في المرحلة الأخيرة من شعارات يعتبر خير مثال على ذلك فشعار ( الإسلام هو الحل) يثير قلق ومخاوف المسيحيين وغير المسيحيين لما يمكن أن تواجهه سائر الفئات الشعبية من مشكلات بثقل تلك الوطأة ,ويصبح التخوف من أن تسود الحركات الإسلامية التي لا تملك وعياً بخصوصيتهم أو عقيدتهم حالة مسيطرة وعامة (17) وهذا ما يضع بالتالي فئات واسعة من مجتمع مسيحي وغير مسيحي في مواجهة مع الخوف والقلق على حساب ما يؤمن به جزء كبير من هذا المجتمع من ضرورات للحوار العقلي على حساب المعتقد.
وأخيراً إن هجرة الثقافات عامة والمسيحية بخصوصيتها السورية - سورية مهد المسيحية - (18) من موطنها الأصلي يفقد الإسلام برهانه تاريخي الساطع على قدرته في التآلف مع غيره وهذا ما يعبر عنه السيد نزار سلوم في قوله إن التآلف التاريخي بين المسيحية والإسلام في المنطقة يجعل المسيحية تجنب وقوع الإسلام في وحدة فإن انتفاءها الساطع يؤدي إلى عزله وفرزه أول مرة بالشكل الذي يسلب منه البرهان التاريخي الساطع على إمكانية وجوده مع غيره في بوتقة واحدة حيث شكلت منطقة الشرق عامة وسورية خاصة المثال الأكثر حيوية ووضوحاً على قدرة الإسلام في تقبل غيره والتفاعل معه وفيما إذا سار هذا المثال نحو نهايته فإن الإسلام سيخسر برهانه التاريخي - الوحيد - الذي من خلاله يستطيع التدليل على أن وجوده ليس شرطاً لانتفاء " الوجود الآخري" وبالتالي إن المثال التاريخي السوري يجعل من الوجود المسيحي راهناً ذا طبيعة دفاعية استثنائية عن الإسلام ويجعل من المسيحية ضرورة إسلامية .(19)
إن ما سببته الهجرة أو التهجير من خلل في البنية الديموغرافية مروراً بالبنية الاجتماعية وصولاً إلى البنية الاقتصادية والأهم البنية المعرفية والوجودية يؤدي إلى فراغات ثقافية , حضارية , وجودية , قيمية , ومعرفية بأنواعها ( تقليدية, حميمية, ضمنية, لغوية, وهي الأهم هنا لأنها تلعب دوراً مقوم ثابت من مقومات الوجود ) وينتج عنها بإلحاح ضرورة ملء الفراغات الناشئة وفق رؤية نابعة من الواقع الجديد وبالطبع متحكم به, تخدم بمقارنة تاريخية مشاريع ومخططات وضعت للمنطقة والدليل عليها ما ورد سابقاً على الصعيد الكمي الذي يحمل بعداً نوعياً بتفاصيله الوجودية البقائية التاريخية وبغيابها يغيب الدليل القاطع النافي المواجه لكل تلك المشاريع والمخططات التي وضعت منذ عقود وبُدِىء مؤخراً العودة إليها مع التحولات الإقليمية التي يمكن أن تساهم في تنفيذها بعد أن مهدت الأرضية لها خلال عقود مضت . فأصابت الهجرة العرب اليهود ولم يبق منهم أحد والعرب المسيحين على طريق التلاشي والخوف أن يصيب الكثير من العرب المسلمين ما أصاب العرب اليهود والعرب المسيحين في بلادهم .
20/6/2007
1- (المهنا عيسى , هجرة الكفاءات والعقول العربية - الفاقد الاقتصادي - معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدمشق , ص18 )
2- (ابراهام سمير ,ابراهيم نبيل ,العرب في أمريكا , مؤسسة سجل العرب , القاهرة , 1985 ً ص 158)
3- ( مجلة المصور 30/7/1993 , تصدر عن مؤسسة دار الهلال القاهرة مصر )
4- (عبده سمير,اليهود السوريون, دار حسن ملص, دمشق , سورية , طبعة أولى,2003 , ص40)
5- (الطوائف اليهودية في الوطن العربي في الماضي والحاضر , مركز جنين للدراسات الاستراتيجية , مرجع سابق ص 13 )
6- (غنيمة يوسف رزق الله ,نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ,مكتبة الثقافة الدينية بور سعيد , طبعة أولى ,القاهرة, 2001 , ص196)
7- ( صيدح جورج , أدبنا وأدباؤنا في المهجر الأمريكية ,طبعة ثانية ,بيروت , 1957, ص117, 118 )
8-(الرداوي ماجد ,الهجرة العربية للبرازيل بين عامي 1854- 1950)
9- البدوي الملثم, الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية , دار الريحاني للطباعة والنشر ,1956,ص4.
10-( صيدح جورج, مرجع سابق ص209).
11- (حدة حسن , تاريخ المغتربين العرب في العالم , الناشران العربي ودار دمشق , 1974 ,ص58)
12-( صيدح , مرجع سابق ص209 )
13- (مجموعة الإحصاءات عن النفوس والمساحات الزراعية , الجمهورية, وزارة الاقتصاد الوطني , دائرة الإحصاء الوطني , تموز عام
1945 , ص 4.
14-(درويش منير , الهجرة الواسعة للمسيحيين المشرقين وتهميش المنطقة , محاضرة ,اتحاد كتاب فلسطين في 23/3/2005 ,نشرت هذه
المحاضرة لاحقاً في موقع كلنا شكاء الالكتروني )
15-( سلوم نزار, محاضرة بعنوان مستقبل المسيحية في سورية , ألقيت في كنيسة القديس كيرلس في دمشق في 29 آذار 2001 , بتصرف)
16-( سلوم نزار, مرجع سابق)
17-(جريدة الحياة, يومية ,عنوان المقال المسيحية العربية في المآلات والمصائر ... أزمة الواقع ومشكلات الرؤية والأفق, 29 نيسان 2006
ص 18 )
18- عنوان الزيارة التي قام بها البابا بولس الثاني متوافقاً مع إرادة الرئيس بشار الأسد في أيار عام 2001 .
19- -( سلوم نزار, مرجع سابق)